فصل: مسألة ما جاء عن عمر بن الخطاب في أن القبلة ما بين المشرق والمغرب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة الإحرام على من أهدى هديه:

فيما جاء من أن الإحرام لا يجب على من أهدى هديه فبعث به وحدثني عن عيسى، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن نافع، عن أبي نعيم القاري، عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد، عن أبيه «عن عائشة قالت: كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بيدي، فيبعث بها النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ ولا يجتنب شيئا مما يجتنب المحرم».
قال محمد بن رشد: في هذا الحديث بيان ما كان عليه أزواج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ من عملهن بأيديهن وامتهانهن في ذلك، وكذلك كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ يمتهن نفسه في عمل بيته، فربما خاط ثوبه وخصف نعله، وقد قلد هديه بيديه على ما جاء عن عائشة في غير هذا الحديث أنها فتلت قلائد هدي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بيديها، ثم قلدها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بيده فلم يحرم عليها شيئا مما أحله الله حتى يخرج الهدي، وفيه أن من أهدى هديا لا يكون بتقليده وبإشعاره محرما حتى يحرم، وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم، وفي ذلك اختلاف بين السلف، من ذلك ما في الموطأ، عن ابن عباس من أنه قال: من أهدى هديا حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر الهدي، وتابعه على ذلك جماعة سواه لحديث «جابر بن عبد الله قال: كنت عند النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ جالسا فقد قميصه من جيبه حتى أخرجه من رجليه، فنظر القوم إلى النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ فقال: أمرت ببدني الذي بعثت بها أن تقلد وتشعر على مكان كذا وكذا، فلبست قميصي ونسيت، فلم أكن لأخرج قميصي من رأسي».
فذهب قوم إلى أن الرجل إذا بعث بهديه وأقام في رحله في أهله فقلد الهدي وأشعره أنه يتجرد فيقيم كذلك حتى يحل الناس من حجهم.
وروي عن ابن سيرين أن ابن عباس بعث بهديه ثم وقع على جارية له فأتي مطرف بن الشخير في المنام فقيل له: ائت ابن عباس فمره أن يطهر فرجه فأبى أن يأتيه، فأتى الليلة الثانية، فقيل له مثل ذلك، فأبى أن يأتيه، وأتى ثالثة، وقيل له قول فيه بعض الشدة، فلما أصبح أتى ابن عباس فأخبره بذلك، فقال ابن عباس: ومم ذلك؟ فقال له: إني وقعت على فلانة بعد ما قلدت الهدي، فكتب ذلك اليوم الذي وقع عليها، فلما قدم ذلك الرجل الذي بعث معه الهدي سأله أي يوم قلدت الهدي؟ فأخبره، فإذا هو قد وقع عليها بعدما قلد الهدي، فأعتق ابن عباس جاريته تلك.
واختلفت الرواية في ذلك عن عبد الله بن عمر، فروى عنه نافع أنه قال: إذا فقد الرجل الهدي فقد أحرم، والمرأة كذلك، ما لم تحج فهو حرام حتى ينحر هديه، وروي عن أبي العالية أنه سمعه يقول: يقولون إذا بعث الرجل بالهدي فهو محرم، والله لو كان محرما ما كان له حل دون أن يطوف بالبيت، والله هذا أولى؛ لأنه أصح في النظر وأثبت من جهة الأثر، وإن كان نافع أثبت في ابن عمر من أبي العالية.
وهذه مسألة يتحصل فيها من أقوال العلماء أربعة أقوال.
أحدها: أنه لا يكون بالتقليد والإشعار محرما حتى يحرم، كان مع هديه أو لم يكن معه، وبعث به على أن يتبعه وهو يقيم في أهله، وهو مذهب مالك وجميع أصحابه، على حديث عائشة عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ، وما روي عنها من أنها قالت: لا يحرم إلا من أهل ولبى.
والثاني: ضد هذا القول، أنه يكون بالتقليد والإشعار محرما، كان مع الهدي أو لم يكن معه، وبعث به على أن يتبعه وهو يريد الحج، أو على ألا يتبعه ويقيم في أهله، وهو مذهب ابن عباس وجماعة سواه، على ما جاء في حديث ابن جابر.
والثالث: أنه يكون بالتقليد والإشعار محرما إذا أراد الحج، كان مع هديه أو بعث به، وهو يريد أن يتبعه وبحج، ولا يكون محرما إذا لم يرد الحج، بعث به مع من يقلده ويشعره أو قلد هو وأشعره وبعث به، وهو قول الثوري. والرابع: أنه لا يكون محرما بالتقليد إلا أن يكون مع هديه وهو يريد الحج، فإن بعث بهديه فقلد وأشعر وهو لا يريد الحج ثم بدا له أن يحج فلا يكون بخروجه محرما، حتى يدرك هديه فيأخذه ويسير به، وهو قول أبي حنيفة، ومن مذهبه لا يكون محرما إلا بالتقليد، ولا يراعى في ذلك الإشعار، وأنه إن أهدى الغنم فلا يكون بتقليدها محرما إذ لا يقلد الغنم، ومن مذهبه أيضا ومذهب أبي يوسف ومحمد أنه إن بعث بهدي لمتعة ثم أقام أياما حكاما ثم خرج وقد كان قلد الهدي وأشعر، أنه لا يكون محرما بخروجه حتى يدركه ويسير به، بخلاف هدي التطوع، وفي حديث عائشة هذا ما يرد حديث «أم سلمة عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ أنه قال: إذا دخل العشر فأراد أحدهم أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا أظفاره حتى يضحي» إذ قد علم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ كان لا يترك الأضحية، ولم يأخذ مالك بحديث أم سلمة وإن كان قد رواه؛ لأن حديث عائشة عنده أصح منه، وقد ترك مالك أن يحدث به، روي عن عمر أن ابن أنس سأله عنه فقال: ليس من حديثي، قال: فقلت لجلسائه قد رواه عنه شعبة وهو يقول ليس من حديثي، فقالوا لي إن لم يرد الأخذ بالحديث يقول: ليس من حديثي، وإلى ما ذهب إليه مالك من أنه لا بأس بحلق الرأس وقص الأظفار والشارب وحلق العانة من عشر ذي الحجة ذهب أبو حنيفة، واختلف قول الشافعي، فمرة قال: من أراد الضحية لم يمس في عشر ذي الحجة من شعره ولا من أظفاره شيئا حتى يضحي، ومرة قال: أستحب ذلك، فإن فعل فلا بأس لحديث عائشة.
وقال الأوزاعي: إذا اشترى أضحية بعدما دخل العشر فإنه يكف عن ذلك حتى يضحي، وإن اشتراها قبل أن يدخل العشر فلا بأس.
فيتحصل في المسألة أربعة أقوال.
أحدها: أنه يجب ترك ذلك في العشر على من يضحي إذا كان واجد الضحية وإن لم يشترها بعد.
والثاني: أن ذلك لا يجب عليه إلا بشرائها في عشر ذي الحجة منذ اشتراها، وإن اشتراها قبل ذي الحجة لم يكن به بأس.
والثالث: أن ذلك يجب عليه في العشر إن اشتراها قبله، وفي بقية إن اشتراها بعد إن مضى بعضه.
والرابع: قول مالك وأصحابه، أن ذلك لا يجب عليه بحال على حديث عائشة..
وذهب الطحاوي إلى أن حديث عائشة غير معارض لحديث أم سلمة؛ لأن المعنى في حديث عائشة أنه لم يحرم عليه شيء مما أحله الله من أهله حتى ينحر الهدي على ما جاء في بعض الآثار، وفي حديث أم سلمة المنع من حلق الشعر وقص الأظفار لمن أراد أن يضحي في العشر اشترى أضحية أو لم يشترها، وكان واجدا لها فيباح له في العشر الإلمام بأهله على حديث عائشة، ويمنع من حلق الشعر وقص الأظفار على حديث أم سلمة، هذا الذي ذهب إليه الطحاوي، وهو خلاف مذهب مالك وأبي حنيفة وأصحابهما، وبالله التوفيق.

.مسألة الطيب عند الإحرام:

في الطيب عند الإحرام قالت عائشة: «طيبت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ في حجه لحرمه ولحله».
قال محمد بن رشد: الحديث بهذا عن عائشة ثابت صحيح روى مالك في موطأه عنها قالت: «كنت أطيب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت» وقد روي عنها في هذا الحديث زيادة تبين معناه، وهي أنها قالت: «طيبت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فطاف على نسائه ثم أصبح محرما، وإذا كان على هذا بالغسل قد أتى على الطيب».
وهذه مسألة قد اختلف فيها الصحابة ومن بعدهم من التابعين، فمنهم من أجاز للمحرم أن يتطيب قبل الإحرام بما يبقى عليه بعد الإحرام، وأن يتطيب إذا رمى الجمرة قبل أن يطوف طواف الإفاضة، ومنهم من لم يجز ذلك، منهم عمر بن الخطاب جاء عنه أنه وجد ريح طيب من ذي الحليفة من معاوية بن أبي سفيان وابن كثير بن الصلت فتغيظ عليهما وأمرهما بغسل ذلك عنهما، وأنه قال بخطبته في عرفة في الحج: إذا جئتم منى فمن رمى الجمرة فقد حل له ما حرم على الحاج إلا النساء والطيب، وإلى هذا ذهب مالك فلم يجز لأحد أن يتطيب قبل الإحرام بطيب يبقى عليه بعد الإحرام، ولا أن يطيب قبل طواف الإفاضة، وإن كان قد رمى الجمرة، إلا أنه لا يرى على من فعل ذلك الفدية، لما جاء في ذلك من الاختلاف وحصل بين العلماء من الصحابة ومن بعدهم، والله الموفق.

.مسألة قول النبي عليه السلام في عمر بن الخطاب:

في قول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ في عمر بن الخطاب وعنه أيضا عن نافع عن ابن عمر أن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ قال: «إن الله جعل الحق على قلب عمر ولسانه».
قال محمد بن رشد: ويروى: «إن الله ضرب بالحق على قلب عمر ولسانه» والمعنى في ذلك سواء، وهو أنه كان يرى الرؤية بقلبه ويقوله بلسانه فيوافق فيه الحق، وقد نزل فيه القرآن، بموافقته في تحريم الخمر، وفي أسرى بدر، وفي الحجاب، وفي مقام إبراهيم على ما جاء في ذلك كله، وكان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يظن الظن ما يكاد يخطئه، روي عن عبد الله بن عمر أنه قال: قل ما يكون عمر يقول الشيء أظنه كذا إلا كان على ما ظن، وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال: ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر من كثرة ما كان يصيب في قوله الحق، وقد توجد الزكانة والفطنة وإصابة الرأي في القول في كثير من الناس، وروي عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ أنه قال: «كان فيما مضى محدثون يعني ملهمون، فإن يكن في أمتي أحد منهم فعمر». فمن ذلك ما روي عنه أنه بعث بعثا أمر عليهم سارية بن زنيم- رجل من أصحابه-، فبينما عمر يخطب إذ صرخ ثلاث صرخات يقول: يا سارية بن زنيم الجبل الجبل، ظلم من استرعى الذئب الغنم، قال فشنع ذلك، فلما سمع عبد الرحمن بن عوف دخل على عمر فقال: كأنك أعرابي إذ صرخت ثلاث صرخات، بينما أنت تخطب يا سارية بن زنيم الجبل الجبل، ظلم من استرعى الذئب الغنم قال: وقع في روعي أنه ألجأه العدو إلى الجبل، قال: فلعل عبدا من عبيد الله يبلغه صوتي، قال فجاء سارية من الجبل فقال: نعم سمعت صوتا يوم الجمعة نصف النهار يا سارية بن زنيم الجبل الجبل، ظلم من استرعى الذئب الغنم، وذكر أيضا أن سارية ابن زنيم لما قصد نساودرا بجرد وانتهى إلى عسكرهم نزل عليهم وحاصرهم ما شاء الله، ثم إنهم استمدوا وتجمعوا وتجمعت إليهم أكراد فارس، فدهم المسلمين أمر عظيم وجمع كثير، ورأى عمر في تلك الليلة فيما يرى النائم معركتهم وعددهم في ساعة من النهار، فنادى من الغد الصلاة جامعة، حتى إذا كان في الساعة التي رأى فيها ما رأى خرج إليهم، وكان أربهم والمسلمين بصحراء إن أقاموا فيها أحيط بهم، فإن أووا إلى جبل من خلفهم لم يؤتوا إلا من وجه واحد، ثم قال: يا أيها الناس إني رأيت هذين الجمعين، وأخبر بحالهما، ثم قال يا سارية الجبل الجبل، ثم أقبل عليهم وقال: إن لله جنودا، ولعل بعضهم أن يبلغهم، ولما كانت تلك الساعة من ذلك اليوم أجمع سارية والمسلمون على الاستناد إلى الجبل، ففعلوا وقاتلوا القوم من وجه واحد، فهزمهم الله فكتبوا بذلك وباستيلائهم على البلد إلى عمر، فنفذ الرسول عن عمر لأمره الذي أمره به فيما غنموه، وقد سألوه أهل المدينة عن سارية وعن الفتح وهل سمعوا شيئا يوم الوقعة؟ فقال: نعم، سمعنا: يا سارية الجبل، وقد كدنا نهلك فألجأنا إليه، ففتح الله علينا.
ومن ذلك قوله: أدرك أهلك فقد احترقوا، وكان كما قال للذي سأله ما اسمك؟ فقال: جمرة، قال: ابن من؟ قال: ابن شهاب، قال: أين مسكنك؟ قال: بحرة النار؟ قال: بأيتها؟ قال: بذات لظى.
وقد قيل إن قوله أدرك أهلك فقد احترقوا، من معنى ما روي عن ابن مسعود أنه قال: لا أقول لا أعبد هذا العود، إن البلاء موكل بالقول.

.مسألة ما جاء عن عمر بن الخطاب في أن القبلة ما بين المشرق والمغرب:

فيما جاء عن عمر بن الخطاب في أن القبلة ما بين المشرق والمغرب وفيه أيضا عن نافع، عن ابن عمر، أن عمر بن الخطاب قال: ما بين المشرق والمغرب قبلة إذا توجه قبل البيت.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا أن القبلة إنما تتحرى فيما بين المشرق والمغرب، لا في المشرق ولا في المغرب، بدليل قول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لا يستقبلن أحدكم القبلة لبول ولا لغائط، ولكن شرقوا أو غربوا»، وإنما خوطب بهذا أهل المدينة، إذ تكون القبلة فيما بين المشرق والمغرب، إلا لمن كان في الجنب والشمال، وأما إن كان في المشرق أو المغرب فقبلته في الجنوب والشمال، أي يتحرى القبلة فيما بينهما على ما ذكرناه، ومن كان فيما بين الشمال والمشرق أو فيما بين الجنوب والمغرب فإنما يتحرى القبلة فيما يقابله من الخط الذي يكون بين الشمال والمغرب، ومن كان فيما بين الجنوب والمشرق أو فيما بين الشمال والمغرب فإنما يتحرى القبلة فيما يقابله من الخط الذي يكون مما بين المغرب إلى الجنوب إلى ما بين المشرق والشمال.
وقد قال بعض الناس في تفسير قول عمر بن الخطاب: ما بين المشرق والمغرب قبلة إذا توجه قبل البيت، وقول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ «ولكن شرقوا أو غربوا» هو أن ينظر الرجل إلى مطلع الشمس وإلى مغربها عند اعتدال الزمن حتى يستوي الليل والنهار، فينصب خطا من المشرق إلى المغرب، ثم يصلي الناس إلى ذلك الخط يتعاطونه من الجهتين، ولا يشرقوا ولا يغربوا، وهو خطأ ظاهر وغلط بين؛ لأن التوجه في الصلاة إنما يجب بنص القرآن إلى شطر المسجد الحرام، يتحرونه من كل جهة من الجهات الأربع، لا إلى الخط الذي يخرج من المشرق إلى المغرب، وقد قال بعض الناس: إن البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل مكة، ومكة قبلة لأهل الحرم، قبلة لسائر الناس، وهذا أيضا ليس بصحيح، إذ لا يؤمر أحد أن يتوجه تلقاء الحرم، وإن بعد موضعه من مكة، إنما يؤمر أن يتوجه تلقاء بيت الله الحرام من مكة التي في داخل الحرم.
ووجه ما ذهب إليه قائل هذا القول: إن القبلة كلما بعدت اتسع الخطأ فيها، فيكون سبيل الذي يخرج في اجتهاده من أهل مكة عن استقبال شيء من المسجد كسبيل الذي يخرج في اجتهاده من سائر الناس عن استقبال شيء من الحرم، وكسبيل الذي يخرج في اجتهاده من أهل الحرم عن استقبال شيء من مكة، وهذا لا معنى له، إذ لا يفترق في الحكم قلة الخطأ في ذلك من كثرته.
والخطأ في القبلة لا يخلو من أربعة أوجه.
أحدها: أن يكون الخطأ مما يرجع به من اجتهاد إلى اجتهاد..
والثاني: أن يكون مما يرجع فيه من يقين إلى يقين.
والثالث: أن يكون مما يرجع فيه من يقين إلى اجتهاد.
والرابع: أن يكون مما يرجع فيه من اجتهاد إلى يقين.
فأما ما يرجع فيه من اجتهاد إلى اجتهاد، مثل أن ينحرف الرجل عن القبلة من غير أن يشرق أو يغرب، فلا إعادة عليه في وقت ولا غيره.
وأما ما يرجع فيه من يقين إلى يقين، مثل أن يصلي الرجل بمكة إلى غير القبلة، فعليه الإعادة في الوقت وبعده.
وأما ما يرجع فيه من يقين إلى اجتهاد، مثل أن يصلي الرجل مستدبر القبلة أو مشرقا أو مغربا، فهذا فيه قولان في المذهب، أحدهما أنه يعيد في الوقت، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك، والثاني: الفرق بين أن يشرق أو يغرب أو يستدبر القبلة، فإن شرق أو غرب أعاد في الوقت، وإن استدبر القبلة أعاد بدءا، وهو قول المغيرة.
وجه قول ابن القاسم وروايته عن مالك، أنه لما كان لا يرجع إلى يقين لم يجب عليه الإعادة إلا في الوقت.
ووجه قول المغيرة بالتفرقة بين الذي يصلي مستدبر القبلة وبين الذي يصلي مشرقا أو مغربا، أن الذي صلى مستدبر القبلة يعلم قطعا أنه صلى إلى غير القبلة، والذي صلى مشرقا أو مغربا يوقن أنه صلى إلى غير القبلة، ولا يعلم ذلك قطعا، لقول عمر بن الخطاب: ما بين المشرق والمغرب قبلة إذا توجه قبل البيت..
ولعمري من صلى عندنا مغربا ليعلم قطعا أنه صلى إلى غير القبلة، إذ يعلم أن القبلة عندنا ليست في الغرب، كما يعلم أنها ليست في الجوف.
وأما الوجه الرابع: وهو ما يرجع فيه من اجتهاد إلى يقين، مثل أن يصلي في البعد من مكة مجتهدا في القبلة، ثم يأتي مكة فيعلم فيها أن صلاته الأولى كانت إلى غير القبلة، فالحكم في ذلك عندي حكم من يرجع من يقين إلى اجتهاد، ولا أعلم في ذلك نصا، وقد قال بعض العلماء: إن القبلة يستدل عليها في كل بلد بأي جهة كان من الأرض، بأن يستقبل الرجل الشمس ويجعلها بين عينه إذا استوت الشمس في كبد السماء في أطول يوم من السنة؛ لأن الشمس تكون في ذلك الوقت في ذلك مقابلة للبيت ومسامتة له، بدليل أنه لا فيء له، فإذا استقبل الناظر إليها فقد استقبل البيت، وهذا القول ظاهره الصحة، وليس بصحيح؛ لأن الشمس لا تستوي في كبد السماء في وقت واحد في البلد المتباين بالبعد الكثير، وبالله التوفيق.

.مسألة الإهلال بالحج:

ما جاء في الإهلال بالحج وعنه، عن نافع، عن أبي نعيم، عن نافع مولى ابن عمر، عن ابن عمر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ قال: «يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، وأهل الشام من الجحفة، وأهل نجد من قرن»، وقال: يهل أهل الحد من يلملم.
قال محمد بن رشد: ذو الحليفة مهل أهل المدينة على مقربة من المدينة والجحفة مهل أهل الشام على بعد منها في الطريق من المدينة، وأما قرن ويلملم فليسا في طريق مكة من المدينة، وكذلك ذات عرق التي وقتها عمر بن الخطاب لأهل العراق فمن مر من أهل الشام ومن وراءهم من المغرب على المدينة كان له أن يؤخر إحرامه إلى مهله الجحفة، والفضل له أن يحرم من ميقات النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ ذي الحليفة، ومن مر من أهل العراق وأهل نجد أو أهل اليمن بالمدينة فعليه أن يحرم من ذي الحليفة مهل أهل المدينة، إذ لا يمر واحد منهم بطريقه على مهله وإنما يمر على الجحفة وليست بميقات له، وإنما هي ميقات لأهل الشام، وهذا بين في المدونة وغيرها، فكل من مر بميقات ليس هو له بميقات فعليه أن يحرم منه واجبا إلا أهل الشام إذا مروا بذي الحليفة عليهم أن يحرموا منه لأن ميقاتهم أمامهم، ومن لم يمر بميقات من المواقيت في طريقه فعليه أن يحرم إذا حاذى الميقات.
واختلف فيمن كان في البحر، فقيل إنه يحرم فيه إذا حاذى الميقات، وقيل لا يحرم حتى يخرج منه لقول الله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27] وهو قول مالك في رواية علي بن زياد، وبالله التوفيق.

.مسألة صيام عاشوراء:

ما جاء في صيام عاشوراء وعنه أيضا عن نافع عن أبي نعيم عن نافع مولى ابن عمر ذكر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صيام يوم عاشوراء فقال النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ. «كان يوم عاشوراء يوما تصومه الجاهلية فمن شاء فليصمه ومن شاء فليفطر».
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا الحديث- والله أعلم- أنه كان بعد أن فرض رمضان لأن صومه كان واجبا قبل أن يفرض صوم رمضان، بدليل ما جاء عن عائشة في حديث الموطأ من قولها: «كان يوم عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ يصومه في الجاهلية، فلما قدم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان كان هو الفريضة وترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه؛» لأن في قولها فلما فرض رمضان كان هو الفريضة دليل ظاهر على أنه كان هو الفريضة قبل أن يفرض رمضان، وقد دل على هذا أيضا ما روي «عن عبد الرحمن بن سلمة الخزاعي عن عمه قال: غدونا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صبيحة عاشوراء وقد تغدينا، فقال: أصمتم هذا اليوم؟ فقلنا: قد تغدينا، قال: فأتموا بقية يومكم» وروي «عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر يوم عاشوراء فعظم فيه، ثم قال لمن حوله: من كان لم يطعم منكم فليصم يومه هذا، ومن كان قد طعم فليصم بقية يومه»؛ لأن هذا هو حكم الفرض لا حكم التطوع، إذ لا يصح صيام التطوع لمن لم يبيته، لقول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل».
وقد روي عن ابن عباس ما دل على أن صومه لم يكن إلا للشكر لا للفرض، قال: «لما قدم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم فقالوا: هذا اليوم أظهر الله عز وجل فيه موسى على فرعون، فقال: أنتم أولى بموسى منهم فصوموه» فجمع الطحاوي بين الحديثين بأن قال: يحتمل أن يكون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوجب صيامه بعد أن لم يكن واجبا.
وما في الحديثين من التعليل يبعد الجمع بينهما على هذا، فالأولى أن يتأول على ما في حديث ابن عباس من قوله: فصوموه على أنه أراد: فصوموه واجبا كما كنتم تصومونه في الجاهلية.
ويوم عاشوراء هو اليوم العاشر من محرم، وقد قيل فيه: إنه التاسع بدليل ما روي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لئن عشت إلى العام المقبل لأصومن عاشوراء يوم التاسع»، وهذا الدليل يضعف بما في رواية آخر لهذا الحديث «لئن أعشت، إلى قابل لأصومن يوم التاسع» يعني عاشوراء لأنه يحتمل لأصومن التاسع مع العاشر كيلا أقصد إلى صيامه بعينه دون أن أخلطه بغيره كما يفعله اليهود، بدليل ما روي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في يوم عاشوراء: «صوموه وصوموا قبله يوما وبعده يوما ولا تشبهوا باليهود»، وبالله تعالى التوفيق.

.مسألة ما جاء في ليلة القدر:

فيما جاء في ليلة القدر وعنه أيضا عن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر قال: «أري ناس من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة القدر في السبع الأواخر من رمضان، فقال: إني أرى رؤياكم، قد تواطأت على السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر».
قال محمد بن رشد: ليلة القدر هي الليلة المباركة التي ذكر الله أنه أنزل فيها الكتاب المبين، وأنه يفرق فيها كل أمر حكيم وأنها {خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] وأن الملائكة تتنزل فيها بكل أمر، وأنها سلام حتى مطلع الفجر، وفي تأويل ذلك خلاف.
واختلف أيضا هل كانت في حياة النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ ثم رفعت، أو هي باقية لأمته إلى يوم القيامة؟ وهو الصحيح من الأقوال، وهل هي في العام كله أو في شهر منه؟ وهو رمضان منه أو في العشر الأواخر منه أو في العشر الوسط أو العشر الأواخر؟ وهل هي في ليلة بعينها لا تنتقل عنها؟ واختلف على هذا في تعيينها على اختلاف ظواهر الآثار في ذلك، وقد ذكرنا بيان هذا كله مستوفى في كتاب المقدمات، وبالله التوفيق.

.مسألة إرداف الحج على العمرة:

في إرداف الحج على العمرة وعنه أيضا عن نافع عن ابن أبي نعيم عن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر أنه خرج فأهل بالعمرة من الشجرة ثم صار حتى ظهر على البيداء فقال: ما شاء الله إن الحج والعمرة إلا واحدا أشهدكم أني أوجبت الحج مع العمرة.
قال محمد بن رشد: إحرام ابن عمر هذا كان في الفتنة وهو يخشى أن يصد عن البيت فأحرم بعمرة من أجل أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان معتمرا إذ صده المشركون وقال: إن صددت عن البيت صنعت كما صنعنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين صد عن البيت على ما جاء عنه في غير هذا الحديث.
وقوله في هذا الحديث حين ظهر على البيداء: ما شاء الله معناه ما شاء الله أن يكون كان من الوصول إلى مكة والصدود عنها.
وقوله إن الحج والعمرة إلا وحدا معناه إن الحكم في الصدود عن البيت في الحج والعمرة سواء في أن يحل المصدود منها في الموضع الذي صد فيه على ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي قوله أشهدكم أني أوجبت الحج والعمرة دليل بين على أن القران أفضل عنده من التمتع لأنه لم ينتقل من التمتع إلى القران إلا ابتغاء الفضل في ذلك.
وقد اختلف في الإفراد والتمتع والقران أن أيهم أفضل على اختلافهم في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل كان في حجة الوداع مفردا أو قارنا أو متمتعا؟ فمن صح عنده أنه كان مفردا رأى الإفراد أفضل وهو مذهب مالك، ومن صح عنده أنه كان قارنا رأى القران أفضل، ومن صح عنده أنه كان متمتعا رأى التمتع أفضل.
ومن أهل العلم من رأى الإفراد أفضل ثم التمتع لأن الله تعالى أباحه في القران، ثم القران، ومنهم من لم يفضل شيئا من ذلك على شيء منها؛ لأن الله تعالى قد أباحها كلها وأذن فيها ورضيها.
وإرداف ابن عمر الحج على العمرة التي كان قد أحرم بها قبل أن يعمل منها شيئا أمر متفق عليه من فقهاء الأمصار، وهو مذهب مالك وجميع أصحابه أن المحرم بالعمرة له أن يردف الحج ما لم يطف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة، فإن أردف الحج على العمرة قبل أن يتم الطواف بالبيت فهو قرن، واختلف بالتأويل على ما في المدونة إن أردفه عليها بعد أن يكمل الطواف بالبيت قبل أن يركع، وأما إن أردفه عليها بعد أن ركع وشرع في السعي أو قبل أن يشرع فيه فليس بقارن يمضي على سعيه ويحل ثم يستأنف الحج، وأما إن أردفه بعد أن أكمل السعي قبل أن يحلق فيلزمه الحج وليس بقارن ويكون عليه دم لتأخير الحلاق ولا يرتدف الحج على الحج ولا العمرة على العمرة ولا الحج على العمرة.
وقال أبو ثور: إذا أحرم لحجة فليس له أن يضم إليها عمرة، وكذلك إذا أحرم بعمرة فليس له أن يدخل عليها حجة ولا يدخل إحراما على إحرام، كما لا يدخل صلاة على صلاة، وما روي في السنة الثابتة عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ من قوله لمن كان أحرم بالعمرة من أصحابه: «من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا» يرد قوله، والله أعلم، وبالله تعالى التوفيق.